منتديات ارقــــــــــــــــــــــو
عزيزي الزائر انت لست مسجل لدينا لدخو المنتدي اضغط تسجيل
منتديات ارقــــــــــــــــــــــو
عزيزي الزائر انت لست مسجل لدينا لدخو المنتدي اضغط تسجيل
منتديات ارقــــــــــــــــــــــو
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ارقــــــــــــــــــــــو

اسلامي /ثقافـــــــــــي/اجتماعي/رياضي يتيح للجميع التعبير بمستوي راقي يدل علي حضارتنا مرحبا بكم
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
المواضيع الأخيرة
» عام جديد (2013 م)
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالأحد ديسمبر 30, 2012 6:44 pm من طرف محمد عبده

» عام جديد (2013 م)
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالأحد ديسمبر 30, 2012 6:43 pm من طرف محمد عبده

» رمضان كريم
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالسبت يوليو 21, 2012 4:20 pm من طرف محمد عبده

» كيفية صلاة الاستخارة
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالأحد يونيو 24, 2012 5:16 pm من طرف محمد عبده

» ذكرياتي في رحاب قاشا
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 22, 2012 2:17 am من طرف د محمد الحسن مختار

»  نكات من الجاهلية
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 28, 2011 12:31 pm من طرف عبد الله محمد خليل خيري

» الفرق بين امتحان البشر وامتحان الله سبحانه !!
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 27, 2011 1:02 pm من طرف عبد الله محمد خليل خيري

» تهنئة بالقبول بالجامعة
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 27, 2011 12:29 pm من طرف عبد الله محمد خليل خيري

» تهنئةبالنجاح
ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 27, 2011 12:20 pm من طرف عبد الله محمد خليل خيري

ازرار التصفُّح
 البوابة
 الصفحة الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 ابحـث
منتدى
أبريل 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
 123456
78910111213
14151617181920
21222324252627
282930    
اليوميةاليومية
للشكاوي والاقتراحات
تصويت

 

 ذكرياتي في رحاب قاشا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
د محمد الحسن مختار
مشـــــــــــــرف



عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/05/2011

ذكرياتي في رحاب قاشا Empty
مُساهمةموضوع: ذكرياتي في رحاب قاشا   ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالسبت أبريل 28, 2012 5:34 pm

دعوني يا إخوتي أخذكم إلى هناك إلى جزيرتي الخضراء ( قاشا )
اصعدوا بعون الله إلى درج الطائرة ، وخذوا أماكنكم ، واربطوا الأحزمة ، فالرحلة طويلة ، سنقطع البحار والصحاري والفيافي ، الآن يحدو كل منكم شوق عارم وحنين جارف لمعانقة الأهل والأحباب في ربوع (قاشا ) الخضراء ، هذه الجزيرة التي ترتمي في أحضان النيل العظيم ، هي إحدى منظومة الجزر الوادعة التي تأخذ حذا بعضها البعض على طول امتداد النيل شمال مدينة (دنقلا) في الولاية الشمالية على بعد أربعين كيلومتر ، هذه الجزيرة التي سطرت اسمها بمداد من الذهب على صفحات التاريخ ، وخاضت بطولات تحدث عنها القاصي والداني وسار بها الركبان إبان ثورة النيل في الأعوام 1946 ــ 1988 ــ 1998 حيث سجل أبناؤها ملاحم بطولية نادرة ، فقد سمعت عما يروى عن آبائنا أن أحدهم في فيضان 1946 كان يرتمي بنفسه ويتمدد بقامته على ثغرة جسر التراب فيهيل إخوانه التراب عليه حتى يبلغ مقدار متر أو يزيد ثم يسحبوه بعد أن يطمئنوا بأن الخطر قد زال ، كان مثل هذا يحدث ليلا ونهار تحت أي ظرف من الظروف لا يأخذون حذرهم من هوام الليل والنهار من الأفاعي والعقارب ، كان أحدهم لا يغمض له جفن ولا يهدأ له بال وإخوانه يقاومون النيل بصدورهم العارية ناهيك عن بطولات أهل القرى المجاورة الذين ضربوا أروع الأمثال في المروءة والتعاون حيث وفدوا إليها زرافات ووحدانا من مشو وكرمة وأرقو ومشروع البرقيق كلٌ يحمل معوله وسلاله بل ويقود ثيرانه أمامه ليقدمها راضيا مرضيا لخدمة إخوانه ، أما النساء فقد ضربن أروع الأمثال في التضحية والفداء ، فقد شمرن ساعد الجد فوقفن جنبا إلى جنب مع الرجال وهن يعدن سيرة الصحابيات الجليلات ، كن يقدمن الطعام والشراب في أتون المعركة ، ويشددن من أذر الرجال بالزغاريد وهم يذوبون في الجلالات والمديح الصادر من عمنا عبد المطلب محمد موسى (رحمه الله ) وعبد الجبار حسن وصابر محمد محجوب وغيرهم كثر، كانت المدائح تخرج من أفواه هؤلاء النفر صافية ندية تهتز له الوجدان وتطرب له الأسماع ، كانوا لا يحسون معه بالرهق والتعب كما كان الشيوخ الكبار الذين عركتهم الحياة فتشبعوا بتجاربها يقدمون عصارة تجاربهم المتراكمة في توجيه الشباب ، منهم من جاء يسعى متوكأٍ عل عصاه ومنهم من أقعدته الأعذار ولسان حاله يقول " ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما " حتى إخواننا من أهل الجنوب والغرب لم يتوانوا عن المشاركة في الحدث العظيم ، تجد أحدهم يحمل سلال التراب على كتفه أو ينهمك في الحفر أو يمسك يد المحراث ، إنها كانت لوحة رائعة عكست التواد والإخاء في قمة معانيها والبذل والكفاح في أرقى أثوابها لا فرق بين الأمي والمتعلم والصغير والكبير ، وكذا لم يغب دور المسئولين في الدولة أيضا من تقديم المعينات العينية والمعنوية في ترحيل وإيواء الناس وتوزيع الأراضي لهم ولا أنسى أبناء( قاشا ) في الخرطوم ودول الخليج وكافة دول المهجر ، كلٌ كان له دور معلوم ونصيب مفروض تمثل حلقة ترفد تاليها من الحلقات لتكتمل اللوحة وتستبين الصورة في أبهى جمالها .
نعم عشت هذه الملاحم البطولية بكل تفاصيلها الدقيقة وحمدت الله كثيرا بأن جعلني من صلب هؤلاء الأشاوس ومن هذه الجزيرة الخصيبة التي قضيت فيها بيض صباي وزهرة شبابي ، نعم عشت في رحاب هذه الجزيرة وشاركت الناس في أفراحهم وأتراحهم ، كم سبحت في نيلها العذب وكم سرحت بغنمي في أوديتها وكم تسلقت نخيلها الشامخات ، كم شنفت آذاني بسماع القرآن من شيوخ خلاويها ، وكم تلقيت العلم على أيدي معلمين أفذاذ من بنيها ، وكم لهوت مع أقراني وملأنا حواريها وأذقتها صياحا وضجيجا ، أتخيل موطن أنسي ومرتع صباي كأنه شريط سينمائي يمر أمامي بشخوصه من حقول خضراء ، وسواقي دائرة ، وحدائق غناء وظلال وارفة ، ومراكب مبحرة تتنامى منها أصوات الطنابير تردد صداها الشطآن الحالمة ، وخمائل مثقلة الأغصان بيانع الثمار اتخذتها الأطيار مسرحا لتراتيلها الأبدي ، ومواكب طيور الكراكي تتهادى في صفحة الماء عند الأصيل والشمس تتوارى خلف النخيل خجلة وقد احمرت وجنتاها وهي ترسل آخر قبلاتها قبل أن تودع النهار ، أتخيل نفسي وأنا صبي غض الإهاب أدير ساقية ترسل أنينها الآسر وأنا أغني لها بعذب الكلام وجميل الألحان وهي تجود بالماء حتى تكاد جداولها تنفجر انفجارا ، وأرى الترابلة وقاماتهم إما منحنية على المعاول وإما منتصبة على المحاريث ، ورب كوكبة من عذارى الحي يردن الماء والجرار على أكتافهن يغمسنها في ماء النيل وهن يرددن القول المأثور عند أهلي ( ووا شيخ منور أن ولقي آر دقدقر أي جنقي بكون ) بمعنى يا شيخ منور، أيها الولي الراقد في وادي الموتى بوقار عند الضفة الأخرى ، احبس تماسيحك ريثما نملأ جرارنا ،تنحدر قطرات الماء على صدورهن في ذلك الصباح الخريفي بالمتشح الخضرة والجمال، في ذلك الحين تتجه أفواج العصافير نحو الأفق بعد أن أمضت ليلة هانئة على الأشجارالقائمة على حواف النهر فيما بقيت بضع قماري فوقها ترسل ترانيمها الأبدي كما يمر بجانبهن تلاميذ بيض الثياب وهم في طريقهم لعبور النهر لتلقى العلم في جهة البرقيق.
ما أجملها من رؤى اجتمعت فيها جغرافية وتاريخ المكان ، ما أشد شوقي وحنيني إلى موطن الآباء والأجداد ومرتع الصبا والذكريات إلى حيث الخضرة والبهاء ، إلى قاشا المتشحة بالخضرة والجمال ، النائمة في حضن النيل في دعة ووقار ، الراضعة من ثديه ، تعالوا معي وادخلوها بسلام آمنين ، تجدونها وقد هبت من نومها وابتردت من توها بماء النيل المبارك كعروس فرعونية ، لتستقبل الداخلين إليها بابتسامة وإلفة ، تضمهم إلى صدرها وتطوقهم بذراعيها في حنان وعطف ، وتحنو إليهم كحنو المرضعات على الفطيم ، تنثر حبات الندى في وجوههم وتتلقاهم بوجه مشرق كصباح العيد حتى تمتلئ جوانحهم غبطة وسرورا .
أما أهلها فنعم الأهل والعشيرة يستقبلون الداخل بالبشر والترحاب ، يسألون عن القادم في لهفة لا تحدها حدود وشوق لا يضاهيها شوق ، تضحك له شطآنها ومروجها ويحسب كأن الدنيا بأجمعها فرحة بلقائه ، يجد كل امرأة تنتظر في المرسى كأنها هي أمه ، وكل رجل جاء يسعى كأنه أبوه ، وكل طفل يأتي إليه جذلان فرحا كأنما هو طفله وفلذة كبده ، كانوا إلى وقت قريب يستقبلون الزائر ويحفونه بموكب مهيب كأنما الزائر بطل قد عاد متوجا بأكاليل النصر والفخار ، هكذا هم دائما ثابتون على قيمهم كثبات (الدفوفة) لا يتحولون عنها قيد أنملة مهما طالت الأزمان وامتدت بهم الأيام ، تجد بينهم للمعاشرة طعما وللحياة معنًي، أولئك آبائي فجئني بمثلهم ....
ها أنذا أخوتي أحط بكم في رحابها لاستمتع بالحياة في رباها ، أعرف كل أماكن لهوي ، الأزقة والحواري ، النيل والنخيل ، المرعى والسواقي ، في كل فج من فجاجها لي قصص وحكايات ، في كل حلة من حلالها لي مواقف وذكريات ، كيف لا ؟ وهي دوحتي التي تفيأت ظلالها ،وأرضي التي حبوت في ترابها ، وروضتي التي تنسمت عبيرها ، ومهد صباي ومحط شبابي ، أقول لها في ختام حديثي كما قال الشاعر :

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعه ـــ ولا أرى غيري له الدهر مالكا
عمرت به شرخ الشباب منعما ــ بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهمو ــ مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ــ عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
قد ألفته النفس حتى كأنه ــ لها جسد إن بان غُودِر هالكا
ونواصل .....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د محمد الحسن مختار
مشـــــــــــــرف



عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/05/2011

ذكرياتي في رحاب قاشا Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذكرياتي في رحاب قاشا   ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالأحد أبريل 29, 2012 7:29 pm

الحلقة الثانية
كانت الجزيرة في ذلك الزمان عامرة بالسواقي حيث كانت تحيط بها كإحاطة السوار بالمعصم ، تسمع أنينها الآسر وتصايح الناس في الحقول وأنت مستلق على ظهرك في فناء المنزل، تستطيع في هذا الحال أن تميز صوت السواقي
وتقول: هذا صوت ساقية عبدون طمبل وذاك صوت ساقية عبدون الملك والصوت الحنين الآتي من أقصى أعماق الجنوب صوت ساقية عبد الله زبير وهذا صوت ساقية (آل حكبة )وصوت ساقية (آل جواد) وصوت ساقية (آل سكراب) وهم أسر من جهة (مشو) و(كمنية) لهم نصيب معروف في أراضي الجزيرة ، الأرض تلونـها عيدان القمح الذهبية ، وهـي تعرض سنابلها فـي سخاء وكرم لتكون مائدة للطير، الدرب فيه ترابي داكن ، كأنه رداء اهل الوقار، تنتشر على جوانبه الاشجار ليأنس بظلالها الداني والغريب ، وتبقى اغصانها مرقصاً للطير، وعصافيرها منبهاً واعدًا لإيقاظ الفلاح .. الناس فيه سواسيه ، اسرة واحدة ، يُعرف فيه الغريب من القريب ، ويعرف الغريب من ملامحه ، فتكون وقع خطاه مدعاة للضيافة والكرم ، يخبأ البسطاء الذرة والقمح والفول والتمر في جوف (القساسيب) ، و(المطامير) ، ينتعلوا الصمت ليسكتوا ضجيج المدن ، يعيش الناس فقراء ولكنهم أغنياء ، أغنياء بعزتهم وكرمهم
ليسوا تعساء ، ليسوا خائفين، يحرثون الأرض صباحا ، ويروونها بماء النيل المبارك أيامًا وأياما ، يمرض الشيخ الكبيرً فيدعون له أعوامًا وأعواما، تصحو الماشية قبل سيدها ، يغادر الناس مسجدهم الصغير قبل أن تشرق الشمس ، ويجتمعون في بيت كبيرهم ليقرروا كيف تبقى قيمهم بعيدة عن فوضى المدن؟ هناك يسكن الطهر وتسكن القناعة ، والجار يأمن جاره والعافية لباس مقدس ، هناك للمصحف في كل يوم أياد تمتد ، يسافر الناس من هناك ليضيعوا بين أرصفة المدن وضجيجها ، ويعودون لينشدوا ضالتهم في بيت الجد الكبير، يبحثوا عن كرسيه ، وعصاه، ومسبحته العتيقة ، يبحثوا الوقار في ملامح وجهه الغائب، والاتكاء على سريره المفروش في واجهة البيت ، يبحثوا عن طعامه الذي لم يبرد يوما ، يبحثوا عن صوته وحنينه وعن كلماته الأخيرة ووصاياه ، لكن شيئًا من ذلك لا يعود ، ربما نجد شجرة زرعها مازالت تقاوم عاديات الأيام بعده سنين عددا ، كنا صغارا نأكل منها وما زلنا وسنظل ، تعلمنا منه الشموخ والكبرياء ، تعلمنا منه أن نأكل بأيدينا ، لا بأيدي غيرنا ، تعلمنا أن الماء جوهر الأشياء ، والتراب بداية الأشياء ونهايتها ، وأن ما نبنيه هو تاريخنا الباقي ، وما نزرعه رائحتنا بعد رحيلنا. وعند الصباح يتبين لك ساقية تدور بها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وعلى شمالك ترعة بمياه زرقاء ، تترقرق مع أشعة الشمس الذهبية ، وها أنت ترسل بصرك لتترقب فرحاً الفلاحين هنا وهناك ، فهناك رجل منهمك في عمله بجانبه نارٌ تندلع في فتات الأغصان الجافة ، وهناك امرأة تحمل صرة ، ربما فيها غذاء لزوجها الذى يعمل مجتهداً في الحقل ، وهناك على حافـة النيل ، شباب جالس يلقي سنانيره يتعقب انتشال السمك في مكر .. وقد يشدك صوت العصافير وهى تتداعي بترانيمها الأبدي فوق الاغصان ، ويعجبك نبات (الحلفا (و(الديس) و(البوص) المنتشر في جماعـات على الشاطئ كأنها عائلات تسكن الحواف.. ويدهشك طيور البجع المهاجر ، ويعجبك القصب وهو ينتصب بقامته هنا فوق كتل الطمي ، وقـد تثيرك الأسماك وهى تقفز تارة كأنهـا تحتفل بحضورك ، يدفعك الفضول بأن تحاكي فلاحاً لتستمد من رجولته وعزته وكرامته ورقته ، وطيبة قلبه ،عند العشية تلامس وجهك نسمات الليل الباردة التي تهب تارة باردة وأخرى ساخنة وأنت تجتاز الطريق الزراعي الفاصل بين الحقول وقد أخذت الحشرات التي تختبئ في مجاري الماء والشقوق في إرسال موسيقى جماعية ساحرة تطرب لها الأسماع وترقص معها الوجدان، بعضها متقطعة وبعضها الآخر متصلة ، وملايين من القناديل المحملة تتمايل مع هبات النسيم كأنها تتجاوب مع هذه الأنغام ، كان أحدنا يمتلكه الخوف والذعر إذا سمع خشخشة القصب ويذهب بخياله بعيدا إلى تلكم الأسطورة التي تدعي بأن فتاة دميمة الوجه تتخذ الحقول مسكنا لها وتخرج من خلالها من حين لآخر إذا ظهر لها فريسة من بني آدم فتأخذ بأنفه وتظل تمتصها حتى تقضي على المسكين وهي ما كانت تعرف (ببت أم بعلو) أو ربما يخرج ثعلب يتبختر في الطريق إذا زجرته يقف وينظر إليك بحدة كأنما يتحداك ، إذا اقتربت منه يفر ثم يقف وينظر إليك وهكذا ، أما في ساعات النهار كانت أسراب الطيور تتخذ تلك الحقول مسرحا ومقيلا وقد نصب في بعض الحقول ما يعرف( بالهيلو) وهو عبارة عن أربع خشبات تغرز في أركان الحقل مشدود عليها حبال معلقة عليها علب وصفائح فارغة وقد جلس رجل فوق راكوبة عند منتصف الحقل ممسكا بتلك الحبال ويشدها من حين لآخر كلما تجمعت العصافير والقماري في مكان ما وعند سماع ضجيج الأواني الفارغة بفعل الشد تفر مذعورة ، أو أحيانا ترى بعض الشباب وقد عمد إلى فتل طرف حبل غليظ ووصله بحبل آخر رقيق مصنوع من ليف النخل ويجعل في آخره مكانا لوضع الحجر ثم يدير ذلك الحبل عدة دورات سريعة وبطريقة فنية بارعة يجعل الحجر ينطلق إلى أبعد مدى ممكن يعقبه دوي رهيب تهتز له أركان الحقل وتفر الطيور هاربة بطريقة فوضوية ، هكذا كان المزارعون يقضون نهارهم في طرد الطيور والعمل الدائب ثم يعودون مع مغيب الشمس حاملين معهم سعن اللبن الملء باللبن الطازج أو حزمة من القش الأخضر بعد أن يتركوا الساقية للصمد معه بعض الترابلة
في ليلة باردة من ليالي الشتاء في منتصف الخمسينات من القرن الماضي مر على منزلنا يوم غير عادي وحدث انتظرته الأسرة منذ وقت طويل، وهو قدوم مولود جديد تحتفي به الأسرة ، ما أجمل وأروع عند أهلنا الغبش أن يفرح رب الأسرة بقدوم مولود في البيت وآخر في المراح من احدي بقراته في وقت واحد،عندئذ تتضاعف الفرحة والسرور
، جاء أبى بعد أن فرغ من قضاء فترة الميزان في الساقية ، والميزان يا أخوتي هو أن يسوق الصمد الساقية من وقت المغيب إلى الهزيع الأخير من الليل إلى أن يأتي أحد الترابلة ويأخذ منه فترة الفجراوي حيث تبدأ هي الأخرى من بعد صلاة الصبح إلى حين قدوم (الأورتي) صبي الساقية مع بزوغ الشمس ، هكذا كان( الترابلة ) يقسمون أوقاتهم في قيادة الساقية وهو ما يعرف اليوم (بالوردية ) في مفهومنا العصري .
جاء أبى ووجد البيت يعج بالنساء عن أخره ،جئن ومعهن صوان شاي الصباح بعضهن وفدن من الحلال القريبة ليتبادلن عبارات الحمد والسلامة والتهنئة بالمولود الجديد ، كان من بين الحضور جدتي زينب النور (رحمها الله) وهى في نحو السبعين من عمرها قد جاءت من أقاصي الجزيرة (الساب) قبل يومين ومعها خالي يعينها على حمل زكائب التمر والدقيق وقناني السمن ، لزوم النفاس ، خرجت من جوف البيت الشيخه سلية كرش اى (صليحه) وهى امرأة طاعنة في السن ولكنها ما زالت تحتفظ ببقية من النشاط والحيوية ،كانت القابلة المعروفة آنذاك ، بجانب مهنتها كانت تداوى المرضى وتختن البنات يقصدها كثير من الناس ، خرجت بعد أداء مهمتها لتبارك والدي وهى تتمتم ببعض الدعوات،ظلت وفود المهنئين تترى من كل حدب وصوب، عاد بعض الرجال الذين قضوا يومهم يعملون في الحقول المجاورة مناجلهم في أيديهم وبعض ذرات العشب تعلو رؤوسهم ، جاءوا لأداء واجب التهنئة بالمولود وهم على عجلة من أمرهم، حلف عليهم أبى بأغلظ الإيمان أن يمكثوا لحين إعداد الفطور بينما انهمك ثلة من شباب الحي في ذبح شاة احضروها للتو من الزريبة المجاورة للبيت ، تناول الناس الطعام في عجل وانفضوا إلى أعمالهم كان هذا حادث ميلادي كما رواه لي أبى (رحمه الله)
ونواصل.....


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د محمد الحسن مختار
مشـــــــــــــرف



عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/05/2011

ذكرياتي في رحاب قاشا Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذكرياتي في رحاب قاشا   ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 01, 2012 5:04 pm

الحلقــــــــــــــة الثالثة
تفتحت عيناي أول ما تفتحت على معالم حلتنا حلة بيوتها غير مرتبة بنيت كما شاءت لها الأقدار، أزقتها متعرجة ومتداخلة بطريقة يصعب الإنسان أن يصل لنهايتها بطريقة مستقيمة كما أن بعض بيوتها ليست لها أبواب ربما تركوها هكذا حتى لا يدعوا الضيف أن يطرقها فأشرعتها مفتوحة للزائرين في أي وقت ، هذا جزء من ثقافة أهلي في إكرام الضيوف والاحتفاء بهم بل ولأي شخص من أفراد القرية ، فالبيت للجميع ينام فيه من أطفال الحلة من ينام إذا غالبه النوم أثناء السمر، أما منزلنا فانه منزل متواضع مبنى من الطين كسائر منازل القرية ، سقفه من جذوع النخيل وخشب السنط وجريد النخل، بارد في الصيف ، دافئ في الشتاء ، إذا نظرت إليه من الخارج تحسبة كيانا هشا ولكنه يقاوم الطبيعة بشيء كالمعجزة يبدأ( بالديوكا) المطبخ يليه (الاسمون كا) مجلس النساء ثم حجرة أخرى في آخر الصف تسمى بيت الحريم ويطلق عليها أحيانا ب ( آرن كا ) يخزن فيها بعض أمتعة البيت ، يتدلى من سقفها خشبتان متعارضتان مربوط عليهما صف من الحمالات مخروطية الشكل تحمل مجموعة من الأقداح العتيقة مصنوعة من شجر الحراز ومجموعة أخرى من صحون النحاس تسمى ( السلم ) بكسر السين وفتح اللام وهى من بقايا التراث تركت في مكانها لعظمة قيمتها ومكانتها التاريخية ، في إحدى الزوايا يقبع شيء يشبه (القسيبة) إلى حد ما ولكنه اصغر حجما يطلق عليه (الكابو) تضع أمي في داخله أغراضها ، الفروة ، شرائح البروش الملفوفة التي لم تكتمل (لفات الأوجة) بفتح الهمزة والواو وتشديد العين وصواني وصحانة وأطباق الكسرة الكبيرة (كونتى)
أما في الأرض على جانبي الجدار فقد رصت مجموعة من (الساوات) مفردها (ساو) وهى اكبر من الزير قليلا يخزن في بعضها التمر وفى بعضها الآخر الحبوب والبقوليات، ربما يقع نظرك على أبريق نحاسي مصنوع في مصر أو صينية نحاس يفتخر أبى بهما ويذكر قصة شرائهما من باب الخلق في إحدى سفرياته في مصر لزيارة ولده هناك. كثيرا ما كنت أتسلل إلى هذه الحجرة لسرقة التمر أو اعبث بمحتوياتها ثم تطورت هذه العادة في أوقات لاحقة إلى سرقة الأقداح وأواني السلم لأصنع منها الطنابير وبيعها بأبخس ألاثمان، ضاقت أمي ذرعا بذلك ولم تكف عن الشتائم واللعنات لأني اعتديت على مقتنياتها التي احتفظت بها كجزء من التراث أو لعلها كانت تعتقد بأنها مباركة تجلب الخير للبيت.
تعالى معي إلى الحجرات الأخرى التي تمتد إلى الاتجاه الشرقي كانت هي الجزء الخاص بالرجال ، أولها كانت لقيلولة رب المنزل والأخرى للضيوف يتدلى من سقفها خشبة معترضة كتلك التي في بيت الحريم تسمى (الواوور) ولكنها خاليه من الحمالات يوضع عليها الثياب ، توزعت في أنحائها عناقريب إما عليها بروش مزخرفة أو مفارش من الدمورية ، أحيانا تجد بين الثياب قفاطين وجلاليب صعيدية مخططة يتحدث عنها والدي بنوع من الزهو كأنها غنمها في معركة حامية في زمن سحيق.
واجهة منزلنا تفتح على ناحية الجنوب حيث واجهات معظم منازل الجزيرة تفتح أما إلى الشرق أو الجنوب إلا عدد على أصابع اليد تفتح أما إلى الشمال أو الغرب وكانوا يضطرون إلى ذلك اضطرارا إن اعترضهم عارض ، كانوا يتشاءمون بهذين الاتجاهين أو قل لعلهم تأثروا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.أما بابها الخارجي فهو باب ضخم عتيق من خشب السنط ، لاشك انه استوعب شجرة كاملة ، صنعة عمنا فقير بصير (رحمه الله ) مهندس القرية الذي لم يتعلم النجارة في مدرسة ، كما كان يصنع عجلات السواقي وحلقاتها هو وابن عمه سيد بصير(رحمه الله) كان بجانب هذه المهنة يجيد ختان الأطفال ويجبر العظام ، كان ساخرا ذا بديهة لا يتوانى عند الطلب كانما خلق ليسعد الآخرين،
ترى في فناء المنزل تمر نشر على الرمضاء ليجف وفى ركن قصي عنزة تأكل عشبا اخضرا وترضع مولودها ، على محاذاة الجدار تقف صف من (القساسيب ) تأخذ حذا بعضها البعض بشكل تدرجي ، الأكبر ثم الصغير ثم الأصغر ويختم بمجموعة من( الساوات)
هذه الدار مرتبطة بمصير الحقل ، إذا اخضر اخضرت ، وحين يجتاح القحط الحقول يجتاحها أيضا ، أصحو عند الصباح ، اسمع أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة إلى الآذان كأنها وساوس، أنين السواقي المنتظمة تقوى الإحساس بالانتماء، شجرة النخل الضاربة جذورها في فناء المنزل توحي بأننا ما زلنا ثابتون لم تغيرنا عاديات الزمن وتقلباته، تحط في أعاليها منذ عشرات السنين القماري في ساعات الصباح والمساء ، ترسل نغماتها الشجية ، أتخيلها تقول : مهمد الهسن .. مهمد الهسن .. مهمد الهسن وخاصة ( الكرو قيل ) أما (القوكا ) يجاوبه من النخلة الأخرى بصوته الجهوري مهتاااار مصفقا جناحيه ، يتربص عند أعلى نخلة صقر ينتظر دجاجة تخرج بصغارها تنقض على صغارها من عل كباز أقتم الريش كاسره ويخطف في لمح البصر واحدة من الصغار وهى تصرخ حيث لا تنفع الصراخ ، تطير الأم وراء الصقر محاولة تخليص صغيرها ولكن جناحاها لا تسعفانها تعود وترى أولادها وقد تكوموا فى ركن قصي ، هذا هو موطن الصبا بجلالها وجمالها، وإشراقها وضيائها، وخضرتها ومائها، ورقة هوائها وزرقة سمائها.
هي صياح الديك وتغريد الطيور ومأمأة الخروف وثغاء العنزة ومواء القطة ونباح الكلب وخوار البقرة وخرير الماء ، وأنين السواقي، ورنة الطنابير وتصايح الناس في الحقول ، تتناغم وتنشد في تناسق وانسجام ، هي رائحة الأعشاب وطلع النخل واريج الليمون وعبير الجروف ، وموكب الأصيل وزحمة خضرة وزفة ألوان ، هي صوت ترتيل الشيخ في السحر، ودقات دلوكة وسيرة بعريس في ساعة العصر ، هي حنين الوالدة وعطف الوالد وحب العم والخال وكل البشر ، هي رائحة الخبز البيتي والحليب الصافي، والسمن
هي ركوب الحمير، والسباحة في النهر، والسمر تحت القمر ، هي نفير الحصاد ولعب الشليل ودق الريحة وربط الحريرة وفرحة عمر، هي البكور إلى الطاحونة واحضار حزم الفول الأخضر وحبات اللوبيا ، وجلب الماء من الحنفية والنهر
هي التمسك بالعادات الحميدة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا من إغاثة الملهوف واحترام الكبير وإعانة الضعيف ورعاية حقوق الجار، وقد أصبحنا نفتقدها في المدينة، لذلك يسميها بعضهم "أخلاق القرية".
ولا يعرف فضل القرية إلا من عاش في المدينة، في بيوت أرضها وسقوفها وجدرانها وقلبها حجر، لا يدخلها النور والدفء إلا بمقدار، ولا يتجدد هواؤها، ولا يستساغ ماؤها ، ولا ترى في كثير من أنحائها شمسها ونجومها وسماؤها.
وهي بعيدة من قيود الحضارة الزائفة، ننعم فيها بالشمس والهواء والليل والنجوم والقمر والحرية، ونجد فيها ملاذا من الصخب والضوضاء والقلق والتلوث. حيث تتجاور فيها المخلوقات دون حواجز، فيعيشون معا في هناء وصفاء جنبا إلى جنب: الناس الحيوانات والطيور والنباتات.
اسمع صوت شيء يقع في الجوار، انه أخي الأكبر بلال مختار يرمى بحزمة من القش وينفض كتفيه وهو يقول: بان( النجام) قد بدا في ساقية سوارن مار وقد سمح عمنا (حمد عبدون حمد) رحمه الله للناس بتنظيف الزرع ، يكفى هذا الرأس للبهائم يومين آخرين، ينثر القش فى جوف الزرية بالتساوىء لمجموعة من العنزات والنعاج ، هناك عنزة كبيرة أخذناها بالنص من عمتنا (هلينة ) رحمه الله كنا نسميها ( هلينجية) لا تكف عن ضرب أخواتها ، ترتفع عاليا ثم تهوى بقرونها الى المسكينة محدثة صوتا مبهما ما بين صوت التيس والعنزة يفعل ذلك كأنما هذا القش قد احضر لوحدها ، بدأ اليوم يلملم أستاره وأخذت الشمس تتوارى خلف سحابة داكنة في الأفق الغربي مخلفة وراءها هالة من الشفق الأحمر.
ونواصل ...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د محمد الحسن مختار
مشـــــــــــــرف



عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/05/2011

ذكرياتي في رحاب قاشا Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذكرياتي في رحاب قاشا   ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 08, 2012 4:21 pm

الحلقــــــــــــــــة الرابعة
يتلاشى ضوء النهار رويدا رويدا وتتلاشى معها أصوات العصافير التي كانت تملا البيت قبل قليل، تسمع بين الفينة والأخرى تغريد عصفورة عنيدة تأبى أن تنوم ، يعود أبى مجهدا بعد قضاء يوم مضن في الحقل ، يهتف لأخي الأكبر عبد الهادي بان يأتي ويأخذ منه سعن اللبن قبل أن يربط حماره في جزع نخلة قريبة ، أمي تسعى نحو السور الشرقي للحوش لعلها تريد إمساك دجاجات رصت فوقه لإدخالها في ( القوقا ) خوفا من أن يباغتها ثعلب متربص ، ولكن تنفلت منها واحدة ، لابد إنها ( الأب رقيبة ) تنطلق هاربة في الأزقة المظلمة محدثة ضوضاءا، تطاردها وهى تلعنها قائلة : ليتني ذبحتك في ليلة عشاء الميتين ، ليتني ذبحتك في ليلة عشاء الميتين ، أخيرا يتم حشرها في احد الأركان وتستسلم ،
العناقريب رصت وسط الحوش وعليها بروش بيضاء ، السماء صافية تلالا في صفحتها النجوم ، أبى يعرف موقع كل نجمة واسمها وزمان ظهورها كسائر رجال أهل القرية ويعرف جيدا إن لها علاقة بزمان نزول المطر وفيضان النيل ، نعم يعرف بواسطتها مواسم زراعة القمح ؟ ومواسم زراعة الذرة ؟ كما يعرف أكثر شهور الشتاء برودة ، الطوبة والكيهك والامشير ، أساله عن اسم كل نجمة وأنا مسند راسي فوق ذراعة اليمنى ، يشير بإصبعه نحو الأفق الغربي ويقول : ذلك النجم الكبير ( شارن وستنن ) أي نجمة الضيف ، وهذه الثلاث نجمات هن ( التوسكر ) وهن ما يعرفن بالعصي ، ويشير إلى مجموعة صغيرة مجتمعة ويقول ، إنها الثريا وتلك العقرب والسهيل و.. و.. ، في هذه الأثناء يرتفع صوت آذان العشاء من الزاوية المجاورة ، ينهض من مضجعه ، يتوضأ ثم ينطلق إلى الزاوية ، لا باس من أن يمكث هناك قليلا حيث يتجاذب الرجال أطراف الحديث عن همومهم واغلبها تدور حول الزراعة والبهائم وندرة القش ونحوها بعدها يتفرقون ، كل إلى داره .
جهزت أمي وجبة العشاء وأحضرته إلى فناء المنزل ريثما يأتي أبى من مصلاه ، جاء أبى وجئت وجاء إخواني ، اجتمع أفراد الأسرة كلها وتحلقوا حول الطعام ،جاء كلب من الجوار بعد أن شم رائحة الطعام وربض بالقرب من باب الحوش مادا ذراعيه إلى الأمام في انتظار أن يجود عليه احد بلقمة ، يأخذ نصيبه ويمضى ، وهكذا يتكرر الموقف ألاف المرات منذ أن خلق الله الخليقة .
بينا نحن كذلك ينطلق طائر البوم ( البرندرو ) من البيوت القديمة والأماكن المهجورة ويمر فوقنا مطلقا صرخة قوية ومخيفة ترد عليه أمي قائلة : ( ارن النا ترل ) ويطلق أخرى في مكان آخر ويردون عليه بنفس العبارة ، كانوا يتشاءمون من صوته المنكر ويحسبونه نذير شؤم كما كانوا يعتقدون بان صوته المفزع إنما إيذان برحيل احد أفراد الأسرة .
كانت هناك طيور أخرى تشاركه ولكنها اقل درجة في كراهة الناس لها وهى طيور الوطواط ، كانت تخرج عند العشية محدثة أصوات خافتة ، تحوم فوق الحيشان والفضاءات طولا وعرضا ، كنت أرى بعض الصبية يحملون عيدان طويلة يلوحونها يمنة ويسرة في وسط الحلقة التي تدور فيها فتصطدم بها وتقع .
بعد العشاء يشرع أبى في سرد قصص أبو زيد الهلالي وفاطمة السمحة وغيرها ونستمع إليه بشغف شديد حتى يغالبنا النوم ، بعده تغض الأسرة في سبات عميق بل ومعها القرية بأكملها حيث لا تسمع صوتا ولا ركزا إلا من نباح كلب من حين لآخر وصياح ديك منفرد أحس بالفجر قبل الأوان يجاوبه ديك آخر، وصراخ طفل في مكان ما في الحي ، وصوت عرس في الضفة الأخرى إلى أن يرتفع آذان الصبح ، يستيقظ أبى كعادته وهو يتمتم ببعض الأوراد ويوقظ أهل الدار للصلاة ، ينطلق إلى الزاوية ، أحس بحركة بركن البيت ، إنها أمي تحلب العنزة لتعد شاي الصباح .
أيقظني صوت اللبن المندفع بقوة إلى جوف الإناء ، الله الله ، ما أعذب هذا الصوت وما أحلاه ! يعود أبى ، ومرة أخرى تتحلق الأسرة حول مائدة الشاي في ( الديوكا ) يشرع أبى في تقويم منجله ( الواديبى ) بمبرد قديم لحين تجهيز أمي الشاي ، وهو في عجلة من أمره ليلحق نفير حصاد القمح في ( قرافنارتى ) بصحبة أعمامنا محمد عثمان ( مينكه ) وعثمان نورى ومحمد احمد ( احمنتود ) ونصر عثمان ( رحمه الله ) ومحمد احمد ( دونتود ) تتحرك قافلة الحمير بخطى سريعة وثابتة حتى يختفي القوم عن الأنظار .
تناغم خالتنا زهرة حاج أمي من وراء السور الفاصل تقول كعادتها كل صباح ( سرن بيكمندو ) يعنى أصبحت طيبين وتخبرها بان هناك عرس في أقاصي جنوب الجزيرة ، تضربا موعدا لذلك ، يأتي صوت آخر من جهة باب الحوش ، أنها عمتي آمنة زبير( رحمها الله ) جاءت تصبح ثم تبعتها بعض نساء ألحى والصفائح بأيديهن يقصدن اخذ الماء من الحنفية للأزيار ، يثرثرن في مواضيع شتى ويخططن لأمور خاصة بهن كجمع الواجب وحمله إلى إحدى بيوت العزاء ، تجلس عمتي عائشة نورى ومعها حجة مسكة تحت نخلة كنا نطلق عليها( شيمة ) عند منتصف النهار ومعهما طبق كبير مصنوع من عيدان سبائط النخل والسعف يطلق عليه ( الكونتى ) جاءت نساء الحي ووضعن ما عليهن من حصة الواجب من سكر وحبوب ونحوها حتى امتلأ (الكونتى) عن آخره ، حمله أكبرهن سنا وانطلقن نحو بيت العزاء في موكب لا تجد فيه للصمت مكانا .
تغادر أسراب العصافير شجرة النيم الكبيرة متجهة صوب الحقول زرا فاتا ووحدانا ، تحوم فوقها وتتعب المزارعين ، أما القمارى فكانت تتجه ناحية البرقيق حيث الحواشات ، تقضى سحابة يومها هناك ومع مغيب الشمس تعود إلى أوكارها ، ترتفع قرص الشمس رويدا رويدا في الأفق الغربي ، تنبسط أشعة الشمس الذهبية على الحقول ويضطرب الناس في أعمالهم وتدب الحياة في القرية من جديد ، أما في الخارج فالحقول نيران ، هذا أوان الاستعداد لزراعة الذرة ، ينظفون الأرض ويجمعون أعواد الذرة والجذوع الصغيرة ، ذكريات الموسم السابق الذي انتهى ، يكومونها أكواما وسط الحقول ويحرقونها ،الأرض سوداء منبسطة تستعد للحدث القادم ، الرجال قاماتهم منحية على المعاول وبعضهم خلف المحاريث ، قمم النخل ترتعش للهواء الخفيف وتسكن ، وبخار حار يتصاعد من حقول( الويكا ) المروية تحت وطأة الشمس في منتصف النهار، مع كل هبة نسيم يفوح أريج الليمون وطلع النخيل وتسمع خوار ثور أو نهيق حمار أو صوت فأس في الحطب ، هكذا تتناغم وتيرة الحياة وأنا اكبر يوما بعد يوم أدور في فلكها وأتجاوب معها في دورانها السرمدي
ونواصل ...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د محمد الحسن مختار
مشـــــــــــــرف



عدد المساهمات : 5
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/05/2011

ذكرياتي في رحاب قاشا Empty
مُساهمةموضوع: رد: ذكرياتي في رحاب قاشا   ذكرياتي في رحاب قاشا I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 22, 2012 2:17 am

الحلقــــــــــــــــة الخامسة
في يوم قائظ من أيام شهر يونيو في منتصف الستينات من القرن الماضي كان يوما مشهودا حيث هبطت على الناس موجة من الحر الشديد ، كنت مستلقيا في ظل احد الجدران متوسدا حزمة من القش الأخضر والناس يوم ذاك يتذمرون من شدة الحر، بعضهم قد وضع ثيابه وظل بالسروال ، بعضهم نزل إلى النهر ليبترد ، وطائفة أخرى أخرجهم الحر من منازلهم وجعلوا يلتمسون ظل النخيل المحيطة بالقرية ، العرق يتصبب من الأجسام والناس كأنهم في عر صات القيامة ، الشمس تلهب الأرض بسياطها فتحيلها جحيما لا يطاق كأن بينها وبين أهل الأرض ثارا قديما ، هناك كلب يلهث تحت الأزيار حوله بضع دجاجات وديك مزعج يصيح من وقت لآخر كأنه يستغيث ، تهبط عصافير صغيرة من الشجرة المجاورة على فوهة الحنفية لعلها تجد ماءا تطفي به العطش ، كل ما حولي يوحى بالسخونة ، الأرض ، الحيطان ، السرائر ، الفرش ، حتى الظل فهو الآخر لا ظليل ولا يغنى من اللهب .
بينا أنا كذلك إذ سمعت رغاء بعير معها جلبة وتصايح أطفال في الخارج ، نهضت دفعة واحدة كأنما صعقتني كهرباء ، انطلقت مسرعا نحو الباب لاستطلع الأمر، وجدت عمي حسب الجابو (أطال الله بقاءه ) أمام واجهة البيت يحث البعير على الإناخة وهو يشد الذمام إلى الأسفل ومعه يرغى البعير وينزل على دفعات من الأمام والخلف حتى استقر على الأرض تماما ، جاء في حماة القيظ ليسلم أبى ( رحمه الله ) محصول القمح ويأخذ أجره ، أهل بلدنا لا يبالون بمواقيت الزيارة يدخلون عليك في اى وقت ظهرا كان أو عصرا ، لا يهمهم أن يقدموا المعاذير، خرج إليه أبى ورحب به وألح عليه أن يدخل ولكنه رفض واكتفى بكوب ماء معللا ذلك بأنه مرتبط بموعد آخر فالناس ينتظرونه في القيساب (مكان جمع المحصول) عاد يسوق جماله يزفه ثلة من أطفال القرية يسعون عن يمينه وشماله وهم يقولون : هج يا جملك هج ،هج يا جملك هج ....إلى أن تواروا جميعا خلف شجيرات عشر كثيف واختفى أصواتهم تدريجيا .
موسم المحصول لا باس به هذا العام خاصة أن الأسرة تنتظر إحداثا سعيدة ، ستقام مراسم ختاني ، ستأتي أختي الصغيرة سميرة (رحمها الله) إلى مسرح الحياة بعد بضعة اشهر ، بعد أيام سيتحول منزلنا إلى خلية نحل مثلها مثل معظم الأسر التي ترتبط مناسباتها بنهاية الموسم ، في المساء تهيا أبى للذهاب إلى الشيخ (حاج كلى خطيب القرية أو الشيخ( فقيرتود) ليحدد له أحدهما اليوم المناسب ، كان أهل القرية لا يقطعون أمرا ذا بال إلا بمشورتهما لمكانتها الروحية وتوقير الناس لهما لما كانا يتمتعان به من تقوى وصلاح (رحمهما الله ) عاد بعد أن أدى صلاة العشاء وقد حدد له يوم الخميس ، أرسلت أمي رسل النساء إلى أنحاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها تخبرن الناس بيوم المناسبة ونوعه كانوا يسمون من تتولى مثل هذا العمل (بالاقجر) كما كان رجلان يطوفان على المزارعين في الحقول لتبليغهم الدعوة ،الدار تعيش بوادر الفرح وينتظم فيها العمل الدءوب وتحدث حركة غير عادية ، نساء يحضرن كل يوم من الحي والأحياء المجاورة وينهمكن في العمل ، منهن مجموعة تنظف القمح من الشوائب وتغسله وتنشره في الشمس ليجف ، مجموعة تنزل لفات البروش الكبيرة (السرنبد) المتدلية على السقف ، تفردها على الأرض وتنظفها من الغبار ومجموعة ثالثة تخيط بروش جديدة وتصبغها بألوان زاهية ، كن يجدن هذا العمل اعرف منهن أختي جارة شرف الدين وخالتي ستنا عرمان واخواتى فاطمة احميدى واختها عائشه وبنات عمى عثمان نورى الكبريات وفاطمة حمد عبدون حمد(فاطمة سعيده) وفاطمة عبد الرحيم كانت الاخيرتان ومعهما بنات عمى عثمان نورى يشكلن مجموعة رائعة لا يفارقن بعضهن ، كانت النساء يؤدين هذا العمل بهمة ونشاط وهن يرفعن أصواتهن بمديح الرسول صلى عليه وسلم ، يقلن بصوت شجي : صلى عليك سلام عليك ، حاج حجاجي سلام عليك ويمدحن حاجى جبلو حاج حجاجي جبلو ونحوها من مدائح ذاك الزمان الجميل، نادرا ما كن يغنين حيث كان المديح طاغيا.
تمتد الحركة أيضا إلى خارج الدار فهناك عقد شباب الحي والأحياء المجاورة اجتماعا معي وتشاوروا حول تحديد يوم استعراض سباق الحمير أو استعراض موكب العريس ، سمه ما شئت أن تسمى ، قد حددوا بعض الحمير القوية السريعة بعينها لاعتلى ظهر إحداهما يوم الموعد ، كذلك تشاوروا في أن يذهب واحد منهم إلى احد وجهاء البلد مثل الشيخ ارصد محمد بشير(رحمه الله ) أو عبد الطيف محمد على(رحمه الله ) أو احمد سيد احمد (أمد الله في عمره ) وذلك عبر أبنائهم ليستأذنوه في أن يعطيهم سرجه ومعه الفروة لأداء هذه المهمة .
يوشك أن يأتي يوم الخميس وما هو إلا يوم واحد يفصل بينه وبين مراسم الختان ، ألا وهو يوم الأربعاء ، نعم يوم الأربعاء وما أدراك ما يوم الأربعاء ، يوم ينتظرونه الناس بفارق الصبر فكأنما هو عيد للقرية ، تنكب القرية كلها منذ الصباح على الشاطيء في هذا اليوم ، يأتون إلى المرسى من كل الاتجاهات بعضهم على ظهور الحمير وبعضهم راجلين والنساء على رؤوسهن القفا ف ، ربما يقع نظرك على رجل يسوق ثورا له ليبيعه في السوق وآخر يدفع أمامه عنزة أو نعجة ، يتكاثف العدد في المرسى ، بمجرد وصول المركب يهرعون نحوه مع جلبة وضوضاء قد تجد رجلين أو ثلاثة في خضم هذا الضوضاء يدفعان حمارا لهما ويسعيان جاهديهن في إدخاله على المركب ، بعض القفاف تقع من على الرؤوس و.. و.. تنطلق المراكب جيئة وذهابا فاردة أشرعتها كالحمام يقف على قيادتها ربان مهرة مثل (سلمان تود) رحمه الله وابنه جمعة سموك (أمد الله في عمره ) وتوفيق سيد أحمد (رحمه الله ) وعوض بدري ونصر فروش وغيرهم ، تفرغ المراكب حمولتها ويخرجون إلى الشاطيء الآخر، ما أن يصعدوا قوز الرمال حتى يقع نظرهم من بعيد على مبان صفراء جميله متناثرة كأنها سفن ضخمة راسية في عرض البحر، إنها مبان مستشفى البرقيق حولها من الناحية الشمالية غبار كثيف تخيم على الأفق تسمع أصوات حيوانات وصياح باعة وأزيز مكنات السيارات تأتى من جهتها ، وترى جمع غفير من الناس يموج فى بعضهم ، هذا هو سوق البرقيق أو (كمبوالسوق) كما يحلو للبعض ، يتلقى بعض تجار ارقو (الفلاليح) القادمين من الجزيرة ويحاول الظفر بشراء ما يحملون من غلات قبل أن تبلغ السوق ، يحلف عليهم ويغريهم بان سعره الذي سيدفعه أكثر من سعر السوق ، يتشبث بقفاف النساء ، بعضهن ترضخ لمساومته وبعضهن تمضى نحو السوق لا تلوى على احد .
كثيرا ما كانت تأخذ أمي قيراطا أو قيراطين من الفول المصري الممتاز أو قيراطين من القمح أو التمر وبضع دجاجات وزجاجتين او ثلاثة من السمن البلدي ، ما أن تصل السوق حتى يتلقفها الناس خاصة موظفو المستشفى وبعض النساء الميسورات اللائي كن يأتين من جهة ارض المحس ، كان أهل القرية يقضون حوائجهم في السوق ، من بيع وشراء وبعد أن ينفض السوق في آخر النهار يعرجون في طريق العودة إلى منازل الأهل القاطنين حول السوق لزيارتهم ، وهم أعمامي محمد عبد السلام (رحمة الله عليه) وعثمان ميرغنى عبد السلام والحاجة جارة عبدا لله وزبير عبدا لله وإبراهيم عبدون (رحمة الله عليه) والشيخ محمد حاج (بيوضي ) والحاج محمد عبد الله نوري وغيرهم ، بعد ذلك يعودون إلى منازلهم محملين بأكياس الموز والبرتقال والبطيخ والعيش البلدي والزلابية التي كانت تأتى بها نساء من كرمة البلد وكأنى أرى مكانهن في الجهة الشمالية من السوق
سوق هذا الأسبوع سوق مميز لامي حيث أنها ستشترى لي جلبابا من الدبلان أو البوبلين وستشترى الحناء والضريرة والحريرة والمحلب والأرياح والبخور والزيت وسوف لن تنسى جوز من جزمة (باتا ) أو (شدة ) وخضارا وغيرها لزوم العرس ومن قبل قد أخذت مقاساتي من أعمامي مصطفى احمد بدري وعباس سوار (رحمهما الله) الترزيان المشهوران في القرية ، في مساء نفس اليوم تدب حركة غير عاديه داخل البيت وما حوله إلى وقت متأخر من الليل ، ماذا يحدث ؟ فتيات الحي والأحياء الأخرى يجلبن صاجات العواسه من بعد صلاة العشاء يضعنها على حجار في شكل صف على محاذاة الجدار يشرعن في عواسة طرقات القمح ذات النكهة المميزة المخلوط فى عجينه دقيق الذرة الشامية فيما تشرع مجموعة في مليء الازيار الى وقت قريب من الصباح ، عند انبلاج الصبح يحمد القوم السري وذلك صباح آخر حافل مليء بالألق والجمال .
ونواصل...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ذكرياتي في رحاب قاشا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ارقــــــــــــــــــــــو :: القسم الادبي :: ابداعات الاعضاء الخاصة-
انتقل الى: